العرف وأثره في التشريع الإسلامي
على ضوء ما تقدم عرضه من النصوص الشرعية، وأقوال الأئمة والفقهاء والمؤرخين يمكننا أن نؤكد على ملازمة العرف للجماعات البشرية منذ تكونت هذه الجماعات، وهذا راجع إلى أنه: وليد حاجتها، وعامل على تماسك وحدتها وترابط أعضائها وحكم بين أفرادها عند غياب أو نقص القوانين، وربما جاز القول إنه حتى مع وجود هذين فإنه لا يتخلى عن دوره بسهولة، بل يحتفظ بأداء وظائفه – ولو في بعض الجوانب – مستعيناً بحيويته وعطف الجماعة عليه وميلها إليه، لشعورها بأنه: غير مفروض عليها بل هو صادر عنها.
غير أنه قد تفرض بعض الأعراف أحياناً على مجموعات من الناس تكون في أغلبها ضارة لأكثرهم نافعة لأقلهم، وفي مثل هذه الظروف يتوقف بقاء هذه الأعراف على قوة المستفيدين منها، الذي يبذلون أقصى ما لديهم من القوة في سبيل الحفاظ عليها، ولا يتخلون عنها إلا لسبب قاهر، قد يكون ثورة أرضية، وقد يكون ثورة سماوية إن صح التعبير.
وأياً كان الأمر فإن تلك الأعراف: تنهار بانهيار حماتها، عكس الأعراف الصادرة عن ضمير الجماعة والمعبرة عن حاجاتها، فإنها قد تبقى حيث يتبناها المسؤولون الجدد سواء كانوا رسلاً أو مجرد قادة.
وهذا عين ما حصل من الشريعة الإسلامية إذ نراها – من باب تكريمها للإنسان – قد راعت العرف الذي فيه مصلحة الجماعة ولا يتعارض مع أهدافها باعتبارها مصلحة الجماعة ولا يتعارض مع أهدافها باعتبارها مصلحة لكل الناس لا لفرد دون غيره، أو طبقة دون أخرى. كما أنها هدمت ما عداه من الأعراف الفاسدة والمتضمنة لضرر الجماعة سواء كان ذلك الضرر بعيداً أو قريباً، ظاهراً أو خفياً حيث إن بعض المضار قد تخفي على كثير من الناس. وما ينبغي للشريعة – ولا ينتظر منها – أن تفعل غير ذلك إذ يستحيل اجتماع الضدين وتوافق النقيضين.
ولا يشكل علىّ القول بمراعاة الشريعة الإسلامية للعرف موقف بعض الأصوليين منه واختلافهم في حجيته، إذ ليس هو المصدر الوحيد المختلف فيه، فهناك الإجماع والقياس ناهيك عن بقية المصادر الأخرى إذ لم يتفق إلا على القرآن والسنة، ثم إن هذا الاختلاف في حد ذاته لا يعتبر مشكلة إذا قدر سبب الاختلاف حق قدره. على أن هذا الخلاف يختفي – أو يكاد – عند التطبيق أو تأسيس الأحكام، فكم من أصولي لم يقل بالعرف في أصوله ولكنه على صعيد التطبيق لا يسعه إلا القول به، حتى قال ابن القيم في مثل هؤلاء: " فإنهم ينكرونهم بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به " أو كما قال القرطبي: "... ينكرونه لفظاً ويعملون به معنى " إذا فالصحيح أن الشريعة الإسلامية راعت العرف وجعلته أصلاً من أصولها.
ولقد تجلت هذه المراعاة في إقرار الشريعة بعض العادات والأعراف، وفي الأسلوب التدريجي الذي اتبعته في هدم ما هدمته منها، ناهيك عما أحالته نصوصها عليه من بيان وتفصيل بعض الأحكام، كما في النفقة والإجارة والبيوع وغيرها وفق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، بمقتضى فهمهم لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، المؤيد بعمل الصحابة والتابعين، باعتبارهم الهداة المهتدين والأقدر على فهم المراد من الشريعة.
ومن لطف الله بنا أن مكن لهم في الأرض حتى اختلطوا بأناس غير ناسهم ورأوا عادات غير عاداتهم، فما رابهم من ذلك شيء، ولم يستنكروا إلا ما نهي الشرع عنه، ولعل في عمل حذيفة رضي الله عنه ما يدل على ذلك عندما أكل على مائدة أحد الدهاقين بالمدائن، فلم يستنكر حذيفة شيئاً إلا آنية الشراب التي كانت من فضة، وأنه لم يستعملها لنهيه عن ذلك عليه السلام.
وكان من أثر إقرار هذا المبدأ – اعتبار العرف – وغيره أن زخر الفقه الإسلامي على مر العصور بشتى الحلول لما استجد ويستجد من القضايا بين الناس ولما يتطلبه التطور الحضاري بما يصاحبه من التعقيد وتشابك الأمور، ولم يقف هذا الفقه عاجزاً عن حل أية قضية في يوم من الأيام، رغم انتشاره في بيئات مختلفة الظروف والمناخ، وتطبيقه على أكبر مساحة من الأرض عرفها دين من الأديان، الأمر الذي يمكن القول معه أن الشريعة الإسلامية لاحظت تأثير المناخ في تشكيل العادات التي تحكم تصرف الإنسان قبل أن يعرفها ويقول بها منتسكيو في روح القوانين بمئات السنين.
وخلاصة القول إن الفقه الإسلامي قد ازدهر على مر العصور وكان من جملة أسباب ازدهاره مراعاة العرف حتى يمكن القول إن الثروة الفقهية الإسلامية تعد – بحق – أكبر ثروة فكرية عرفها الإنسان – وبخاصة – في مجال الفقه. وقد ذكرنا طائفة من الأحكام المبنية على العرف أو المحال عليه الفصل فيها في ما تقدم من هذا البحث.
وأخيراً وبناء على ما تقدم فإنني: أقرر أمرين، الأول أن العرف – متى استكمل شرائطه – مصدر أساسي من مصادر التشريع الإسلامي تبنى عليه الأحكام، ويستعان به في التوصل إلى الحق، ومعرفة مقاصد الناس في عقودهم التبادلية، وأيمانهم ووصاياهم ومقاصدهم في جميع معاملاتهم.
الثاني: أنه من الأفضل لهذه الشريعة أن تتوازى فيها الرخص والعزائم دون التركيز على أي منهما دون الأخرى، وإذا كان لابد من تغليب إحداهما على الأخرى في بعض المجالات، فليكن التركيز على العزائم في العبادات، وعلى التيسير والسماحة في المعاملات.
وما من شك في أن في العمل بالعرف: أحد مظاهر السماحة والتيسير في هذه الشريعة، وهو الأمر الذي طلبه محمد صلى الله عليه وسلم وأوصى به أتباعه بقوله: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ". وما احتواه هذا البحث، عن طريق إثبات حجية العرف، وذلك لما في العمل به من رفع الحرج عن هذه الأمة التي خاطبها ربها بقوله: { وما جعل عليكم في الدين من حرج }
Tidak ada komentar:
Posting Komentar
Please Uktub Your Ro'yi Here...