Selasa, 10 Januari 2012

Taqnin Al-Ahkam Al-Fiqh

تقنين أحكام الفقه


الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن موضوع تدوين أحكام الفقه الإسلامي. وإن شئت فقل (تقنين أحكام الفقه)، وتناولتها وسائل الإعلام، وأثنى عدد كبير من الناس على هذا المشروع، وخاصة الذين عاصروا وعايشوا القضاء الشرعي.
في المقابل: تكلم آخرون، وحذروا من التقنين ومغبته وتبعته... الخ.
وهؤلاء كانوا على نوعين:
نوع: تضمن كلامهم التعدي علينا، وعلى من قال بقولنا، وحمل نياتنا ما لا تحتمل، ووصل بعضهم الحال أن جعلنا في الختام وسيلة وأداة للمستعمر الجديد لتنحية شرع الله، وإحلال القانون الوضعي مكانه.
ولا نقول إلا سبحانك هذا بهتان عظيم، ونسأل الله لهم الهداية...
ونوع آخر: قالها بحسن نية، مجتهدا في ذلك بما أداه إليه علمه، دون تعد على الآخرين، والطعن في نياتهم، فهؤلاء نشكر لهم دوافعهم، وإن كان -نرى- أنهم تكلموا في هذه الحادثة ولم يصيبوا، إما لجهلهم بحقيقة ما دعونا إليه وما اعتمده ولي الأمر وفقه الله، وإما لعدم علمهم بما عليه واقع المحاكم.
ومن هؤلاء أحد العلماء البارزين، من خلال مقالة له في إحدى الصحف، فكان لي تعليق على بعض ما ذكره في مقالته، فأقول وبالله التوفيق.
قال الشيخ -حفظه الله- (والمراد بالشريعة الكتاب والسنة وليس المراد بها اجتهادات الفقهاء، فهل يمكن تقنين الكتاب والسنة بجعلها على شكل مواد قانونية هذا لايمكن فهما أجل وأعظم من ذلك).
قلت: المراد بتدوين (تقنين) الفقه، هو تدوين أحكامه، أي تدوين أحكام الكتاب والسنة، فهذه الأحكام مستنبطة من القرآن والسنة والإجماع، وما زاد عليها فهو فروع عنها، ومستخرج منها خروج الجنين من رحم أمه.
فإذا كان الأمر كذلك فما هو المحظور الشرعي في ذلك، خاصة إذا علمنا أن كتب الفقه المدونة خاصة المختصرات منها على هذا النمط، اختصرت على شكل أحكام مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة، لكي يسهل فهمها وحفظها على الطلاب، والتي هي من وسائل تقريب العلم، فالعبارات التي فيها من إنشاء المجتهدين.
فما الفرق بين هذه المختصرات الفقهية وبين الأحكام المدونة على شكل مواد من ناحية التقريب والتسهيل.
فهما متماثلان، ولا يصح التفريق بين المتماثلين. بل هذه الطريقة هي أكثر عدلا وأسرع حلا للمشاكل، فالقضاء لدينا يطبق احكام الشريعة -بحمد الله- وهي أحكام متعددة، مصادرها كثيرة، ووجهات النظر في كثير من مسائلها متباينة، لما تحتمله نصوصها من المعاني الكثيرة. وكذلك عقول البشر محدودة، وتتفاوت في مدى قدرتها على استنباط الأحكام من تلك النصوص، فتتضارب الأحكام في كثير من الأحيان.
فهذا التدوين للأحكام ولا شك أنه يساهم في إقامة العدل المنشود في قضايا الخصوم، ويسهل مهمة القاضي، ويريحه من المشقة، وإطالة البحث في الوقت الذي يطلب من سرعة البت في القضايا المعروضة المتراكمه، والتي تزداد يوما بعد يوم، بل يعالج ما نراه من تضارب في الأحكام الصادرة في موضوع واحد في البلد الواحد، أو ربما في المحكمة الواحدة، إن لم يكن من القاضي الواحد.
قال - وفقه الله- (ولا تتسع المواد القانونية لاستيعاب ما في الكتاب والسنة).
قلت: ان هذه المدونة ليست لكل ما في الكتاب والسنة من أحكام، وإنما هي متعلقة بأحكام المعاملات والأنكحة والأحوال الشخصية والقضاء والجنايات..، لأنها هي التي يتعلق بها حكم القضاة.
أما العبارات فهي أصلا لا تنظر في المحاكم، ولا نحتاج إلى صياغتها. ثم كيف استطاعت كتب الفقهاء على استيعاب الأحكام، ولا تستطيع المدونة (التقنين) على استيعابها، مع أن التدوين مستخلص منها؟
قال -حفظه الله- (وأيضاً الفقه لا يحتاج إلى تقنين لأنه مفصل في كتب وأبواب ومسائل وفهارس ومن أراد حكماً في مسألة أو فصلاً في قضية فسيجد ما يطلب بيسر وسهولة).
قلت: يعتبر الفقه مدونا، ولكنه يحتاج إلى صياغة سهلة مرتبة معينة للقضاة وغيرهم لفهم الأحكام، ومقتصرة على القول الراجح لاعتماده.
وأما قوله (ومن أراد حكماً في مسألة أو فصلاً في قضية فسيجد ما يطلب بيسر وسهولة).
الجواب: إن هذا ليس لكل أحد، وخاصة في هذا العصر الذي قل فيه أهل البحث والاطلاع والاجتهاد، فالمستوى العلمي بأحكام الشريعة قد تغير، وأهلية الاجتهاد في هذا العصر قد عدمت أو تكاد، ومشاكل الحياة وتعقيد المعاملات لا تقارن بما كانت عليه من قبل.
فلماذا لا يمكن هؤلاء الأفراد من الاطلاع ومعرفة تلك الأحكام المدونة بيسر وسهولة، وفهمها على نحو لم يكن متيسراً لو رجعوا إليها في المراجع الفقهية المطولة المتعددة.
بل ولن يستطيع كثير منهم حتى لو رجع لتلك المراجع توقع الحكم الذي سيطبق، لتعدد الآراء في المسألة الواحدة، مما يجعل الأحكام في الموضوع الواحد تختلف من قاض الى آخر.
ثم ان السرعة التي تقتضيها كثرة الدعاوي والقضايا تقتضي تيسير الرجوع إلى أحكام الفقه.
بل إننا نجد عزوف كثير من الشركات الكبرى عن الاستثمار في هذه البلاد بسبب عدم وجود أحكام مدونة أو مقننة بارزة الشفافية والوضوح في القضاء الشرعي، فتريد هذه الشركات أمراًواضحاً تضع قدمها عليه حتى إذا حصلت مشكلة لها فهمت طريقة حلها، وحتى لا تتعرض عند إبرام أي عقد إلى حكم بنقضه مبني على اجتهاد أو قول آخر.
قال -حفظه الله- (لو حولنا كتب الفقه إلى مواد وألزمنا القضاة بالحكم بها كنا بذلك عطلنا باب الاجتهاد المطلوب شرعاً وجمدنا على هذه المواد القابلة للخطأ والصواب)
ونحن نقول إن من أسباب التدوين (التقنين) الرئيسية قلة الاجتهاد والمجتهدين، فلم يلجأ إليه إلا بعد قلة القضاة المجتهدين. ومع ذلك ليس معنى تقنين الأحكام إهدار كل تقدير للقاضي، لقاض على سلطته واجتهاده، وإنما المراد بالتقنين هو تقييد السلطة المطلقة فقط. فللقاضي أن يجتهد -إن كان أهلا للاجتهاد- في الحكم، ويخرج من المدونة شريطة أن يدلل أو يعلل على ما ذهب إليه، ثم إن الاجتهاد ليس محصورا في القضاء حتى نقضي عليه، بل هو موجود -كذلك- عند غيرهم من علماء الأمة الإسلامية، وفي غير الأحكام القضائية، فالفتوى أشمل وأوسع من القضاء.
ومسألة إثبات القول الراجح من أقول أهل العلم وتدوينه في كتاب وتعميمه على المحاكم ليست وليدة العصر، فقد كانت مجلة الأحكام العدلية، في الدولة العثمانية على هذا المنوال إلا إنها اقتصرت على المذهب الحنفي دون غيره من المذاهب، ثم ظهر في مصر كتاب (مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان) في المعاملات الشرعية على مذهب أبي حنيفة، وهو من تأليف محمد قدري باشا مرتبا في مواد، وفي المملكة العربية السعودية قام فضيلة الشيخ القاضي أحمد عبدالله القارئ -رحمه الله- وهو رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة سابقا بتأليف مجلة فقهية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- وأسماها ب«مجلة الأحكام الشرعية» ولا تزال هذه المجلة موجودة إلى يومنا هذا، بل لا تكاد تخلو مكتبة قاض منها، يرجعون إليها بين الفينة والأخرى.
بل هناك مجموعة من أعضاء هيئة كبار العلماء في بلادنا طالبت بهذا التدوين للأحكام منهم الشيخ عبدالمجيد بن حسن. والشيخ محمد بن جبير، والشيخ عبدالله بن منيع، والشيخ عبدالله خياط، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ صالح بن غصون. ولعلي أترك القلم لهم فيما ذكروه من وجهة نظرهم -باختصار- . حيث قالوا «ان أمر اثبات الراجح من أقوال أهل العلم، وتدوين ذلك في كتاب، وتعميمه على المحاكم الشرعية للعمل بمقتضاة -ليس أمرا محدثا، وإنما كانت الفكرة موضع اثارة وبحث الجهات المعنية بالمرافق القضائية، وذلك منذ زمن بعيد.
فقد ثبت أن الملك عبد العزيز رحمه الله وغفر له، أراد أن يحمل القضاة على الأخذ بأحكام مختارة يجري تدوينها ثم تعميمها على المحاكم.
فقد جاء في افتتاحية (أم القرى) في عددها الصادر بتاريخ 28/2/1346ه ما نصه:
ان جلالة الملك -حفظه الله- يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة، وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293ه، ولكنها تختلف عنها بأمور، أهمها: عدم القيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ماتراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلا من الكتاب والسنة، وجاء فيها مانصه.
فأصدر أمره إلى هيئة المراقبة القضائية بالمشروع في عملها على الطريقة التالية:
إذا اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام فيكون هذه الحكم معتبرا وملزما لجميع المحاكم والقضاة.
والمذاهب الأربعة هي متفقة في الأحكام الأساسية وفي كثير من الأحكام الفرعية. أما المسائل الخلافية فيشرع في تدوينها منذ اليوم، وفي كل اسبوع تجتمع هيئة مراقبة القضاء مع جملة من فطاحل العلماء، وينظرون فيما يكون اجتمع لدى الهيئة من المسائل الخلافية وأوجه حكم كل مذهب من المذاهب فيها، وينظر في أقوى المذاهب حجة ودليلا من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيصدر قرار الهيئة على إقراره والسير على مقتضاه، وبهذه الوسيلة تجتمع لدى الهيئة معظم المسائل الخلافية التي هي منشأ الصعوبة في التأليف بين أحكام المذاهب، ويصدر القرار بشأنها، ويكون هذا القرار ملزما لسائرالمحاكم الشرعية والقضاة. وأساساً قويا لتوحيد الأحكام وتأليفها.اه المقصود
ثم تحولت الفكرة إلى أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد، فقد صدر قرار الهيئة القضائية رقم (3) في 17/1/1347ه المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24/3/1347ه بما يأتي:
أ- أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ نظرا لسهولة مراجعة كتبه، والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
ب- إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور، ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم - يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة، ويقرر السير فيها على ذلك المذهب؛ مراعاة لماذكر.
ج- يكو ن اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد على الكتب الأتية:
1- (شرح المنتهى).
2-(شرح الإقناع).
فما اتفقا عليه أو انفرد به أحدهما فهو المتبع، وما اختلف فيه فالعمل على ما في (المنتهي)، وإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران يكون الحكم بما في شرحي (الزاد). أو (الدليل) إلى أن يحصل بها الشرحان، وإذا لم يجد القاضي نص القضية في الشروح المذكورة طلب نصها في كتب المذهب المذكور التي أبسط منها، وقضى بالراجح. اه.
ولم يكن الإلزام بالعمل بالراجح من المذهب ابتداء من ولي الأمر، وإنما كان بمشورة هيئة علمية هي الهيئة القضائية1، فالتزم القضاة التابعون لرئاسة القضاة بذلك، واستمر الإلتزام به حتى وقتنا هذا، ويندر من أحدهم الخروج عن المذهب،فإن خرج نقص حكمه، كما كان الحال بالنسبة للحكم الصادر من رئيس وقضاة محكمةالرياض بعدد (57/1) وتاريخ 2/8/1386ه في قضية قسامة، فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بالرياض بعدد (6/3)، وتاريخ 6/10/1387ه؛ لعدة أسباب منها: الخروج بذلك عن المذهب، و تأيد النقض من سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله بموجب خطابه رقم (3798/2/1) في 17/11/1387ه، وكذا بالنسبة للحكم الصادر من محكمة الرياض بعدد (86/1) وتاريخ 9/6/1388ه في قضية قسامة، فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بعدد (7/3) وتاريخ26/3/1390ه.
وأخيرا: فإن هيئة التمييز بالمنطقة الوسطى قد أصدرت قرارا برقم (88/2) وتاريخ 20/3/1391ه بصدد قضية رجل قتل غيلة، وحكم على قاتله بالقتل دون التفات إلى عفو الورثة. جاء فيه ما نصة.
أولاً: إن هذا الحكم مخالف للمفتى به في مذهب أحمد، أو مخالف لمذهبه بالكلية، وقد صرح العلماء: أن المقلد إذا خالف مذهب إمامه ينقض حكمه. إلى أن قالت:
ثانيا: أن إمام المسلمين قد أصدر التعلميات المقيدة لأحكام القضاة بأن تكون على المفتى به من مذهب أحمد، وفي بعض الأوامر قيد الحكم في ذلك في كتب معينة، ولا يخفى أن هذا تعيين مشترط، والمسلمون عند شروطهم، والقاضي إذ أقدم على الحكم بشيء لم يعينه إمامه فيه، ولم يسمح له، يكون قد حكم بغير ما ولي فيه، ومعروف حكم ذلك، وقد وقع القرار المشارإليه رئيس الهيئة الشيخ عبدالعزيز بن رشيد، وأعضاؤها المشايخ: محمد البواردي ومحمد بن سليم ومحمد بن عودة وصالح بن غصون.
قالوا: ومن هذا الإستعراض التاريخي القريب لهذه الفكره، وما ذكر من الوقائع يتضح بأنها من حيث العموم موضع التنفيذ، وأن العمل جار على اعتبارها في مجالات القضاء والإفتاء والتدريس، وأن ما يرغب ولي الأمر -حفظة الله- اعطاء الرأي نحوه لا يخرج عن كونه تنظيما لهذا الوضع القائم. مع الخروج عن التقيد المذهبي، وذلك بتعيين الأقوال الراجحة من قبل هيئة علمية على مستوى يسمح لها بذلك. وتدوينها في كتاب يجري تعميمه على المحاكم للعمل به ، بدلا من أن يكون الراجح من المذهب موضع ادعاء يجد كل مدع في كتب المذهب مايؤيده وسند دعواه مما كان لذلك أثره الواضح في اختلاف الأحكام في القضايا المتشابهة، مما في أحكامها الخلاف القوي، كمسائل الشفعة والرهن والقسامة وإجبار الأب ابنته البكر البالغ على الزواج..، إلى غير ذلك من مسائل الخلاف، بل قد يقع اختلاف الأحكام من القاضي نفسه، كما كان الحال من أحدهم حيث حكم في قضيتي رهن لم يقبض بلزومه في إحداهما وعدم لزومه في الأخرى، وقد لا يتجه الإيراد على ذلك بما قاله عمر رضي الله عنه: (ذلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي)، إذ أن قضاة زماننا لا يمكن لأحد منهم مهما كانت حصيلته العلمية أن يكون في درجة عمر وأضرابه رضي الله عنهم ممن هم في مستوى يمكنهم من الاجتهاد المطلق، بل قد يكون التردد في إلحاق أغلبهم بمرتبة علمية يجوز لأصحابها تقلد القضاء والفتوى، وقد كان للضرورة حكمها في قبول ذلك. انتهى المقصود من كلام أعضاء هيئة كبار العلماء
قلت : وليتأمل القارىء كلام هؤلاء العلماء عندما قالوا (وقد كان للضرورة حكمها في قبول ذلك)ومقارنته بقول من يقول لانريد سد باب الاجتهاد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (ولو شرط الإ مام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين- بطل الشرط، وفي فساد العقد وجهان، ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط فعلوا. فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما في التقديركان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما)اه.
وإذا كان هذا في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، فكيف بحال قضاة هذا الزمن؟
فلو قال قائل بوجوب الإلزام لما اعترضنا عليه، فقد قال به عدد من العلماء الكبار، منهم أعضاء في هيئة كبار العلماء كما سبق ذكر أسمائهم.
ومع ذلك فإني لا أرى الإلزام لعدم الحاجة إليه، وخروجا من الخلاف، ولأنني أثق أن القضاة سيلتزمون به بدون إلزام.
وعلى كل حال فلو خرج قاض عن المدونة -هذا يندر جدا- فللجهة العليا في القضاء أن تناقشه عن سبب هذا الخروج، هل هو من أهل الاجتهاد، أو أنه مقلد يتخير من بين الأقوال بدون دليل.
قال- حفظه الله- (الواجب أن يقال تشريع القانون أي تحويله إلى ما يوافق الشريعة ولا يقال تقنين الشريعة أي تحويلها إلى مايشبه القانون الوضعي تأدباً مع شرع الله وتنزيهاً له بأن يهبط به إلى مستوى صورة القوانين الوضعية).
أولا: نحن نقول إن الشريعة أسمى وأعلى وأغنى وأوفى في أحكامها من أي قانون وضعى من قوانين الأرض. فهي ليست بحاجة إلى أن تشرع القانون الوضعي الذي هو من صنع البشر، بما أعطاها الله عز وجل من الكمال في كل شيء، فهي كاملة بحمد الله من كل نقص، ومستوفية لحاجة البشر -فلله الحمد في الآولى والأخرة-.
وهذا بخلاف القانون الوضعي، والذي يشتكي من يعمل فيه من القصور والتقصير، فقد وجدنا عندهم كثيرا من الأمور لم يجدوا لها حلا، وكان حلها في أحكام الشريعة الغراء.
وهذا قول أصحاب القانون أنفسهم ممن التقينا بهم أثناء اجتماعاتنا الرسمية. ثم إن الأحكام الفقهية التي نقول بتدوينها وترتيبها وتقريبها، موجودة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبل التدوين، بخلاف القوانين الوضعية والتي لا تعتبر قائمة إلا بعد تدوينها،
بل إن غير المدون في القوانين الوضعية لا يعتبر حكما، ولكنه في الشرع المطهر يعتبر حكما إذا وجد ما يدل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع أو اجتهاد مصيب.
ثانيا: ليس مرادنا بتقنين الفقه مشابهة القانون الوضعي، لا في الإسم ولا في المسمى.
وتوضيح ذلك فيما يلي:
أما في المضمون والمسمى: فمرادنا هو أن نصوغ هذا الفقه وهذه الأحكام الفقهية -صياغة واضحة- على شكل مواد مبسطة مختصرة، يفهمها الناس في تعاملاتهم، ويعرفون ما يحكم به القضاة، ويعرف القضاة ما يحكمون به، ويعرف الذين يأتوننا من خارج البلاد أن هذه أحكامنا، ويستطيعون أن يعرفوا مالهم وما عليهم من الحقوق والواجبات.
بل ما الإيجاز في الكتب الفقهية على شكل مختصرات، وأحكام التجويد على شكل إشارات إلا نوع من أنواع التدوين الذي نحن بصدده.
وليس التدوين -أو التقنين- الذي ندعو إليه بأكثر من هذا، بل هو في جوهره ومضمونه نوع منه، كما وأنه بحسب غايته وهدفه ليس إلا وسيلة لحفظ أحكام الشريعة وتأكيدا لتطبيقها.
فنحن ندعو لاستخلاص أحكام المعاملات، ويدخل فيها أحكام الجرائم والمناكحات، فتدون موجزة مختصرة خالية من التعليلات، ومجردة من الأسماء أو الصفات الشخصية، عامة في ألفاظها، ومنوعة بحسب المواضيع التي تعالجها. كما أنه بالإمكان وضع هامش أو حاشية تشير إلى قائمة المراجع الفقهية، أو النصوص الشرعية التي استخلص منها كل حكم، ليسهل الرجوع إليها والتأكد منها، أو تكون قائمة المراجع بملحق المدونة، أو بمذكراتها التفسيرية، أو بأي وسيلة تمكن الباحث من الرجوع إلى مصادر ما يدون ويقنن من أحكام.
وعلى ذلك فنحن ندعو إلى تطبيق الأحكام الشريعة من مراجعها ومصادرها المتعددة المختلفة، ولا ندعو لغيرها ولا نريد شيئا خارجا عنها، فهي بحمد الله كافية وشافية، والله تعالى من وراء القصد.
أما من حيث الإسم: وأن كلمة قانون وتقنين كلمة ليست عربية، بل هي وافدة على لغة العرب.
فنقول هذا صحيح، وبإمكاننا أن نستغني عنها بكلمة تدوين أو تقريب أو نحوهما. مع العلم أن هذه الكلمة اللآتينية استعملها بعض الآئمة المتقدمين، ولم تكن مثلبا لهم في مدوناتهم وكتبهم، حيث إنهم لم يعولوا على الإسم بقدر ما عولوا على المضمون والمسمى.
ومن هؤلاء العالم المعروف ابن جزي المالكي المتوفى سنة 741 هجرية، فقد ألف كتابا أسماه (بالقوانين الفقهية)
وقبله القاضي ابو يعلي الحنبلي في كتابه (الأحكام السلطانية) المتوفى سنة 458 هجرية.
ذكر -رحمه الله- وهو بصدد الحديث عن إمارة الإستيلاء التي تعقد على اضطرار القوانين، فقال (فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة إمارتها..... إلى أن قال، وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق ففيه من حفظ القوانين الشرعية ما لا يجوز أن يترك فاسدا.
وقال -رحمه الله- والذي يتحفظ بتقليد المستولي من قوانين الشرع سبعة: ثم شرع يعددها....
وكذلك القاضي الماوردي المتوفى سنة 450هجرية.
وكذلك ابن خلدون في مقدمته ، وغيرهم.
فهل يعقل أن كل هؤلاء الأئمة والأعلام حينما ذكروا كلمة قانون وقوانين لا يعرفون معناها ومبناها.
وهل يظن بهؤلاء الأئمة الأعلام عندما قالوا في كتبهم (القوانين الفقهية)، وكذلك عندما قالوا (قوانين الشرع سبعة) أرادوا تحويلها إلى ما يشبه القانون الوضعي أو كان هذا الصنيع منهم على خلاف الأدب مع شرع الله عز وجل..
كلا والله.
بل كانت هذه الكلمة دارجة في عصرهم كما هي دارجة في عصرنا، وهي مرادفة لكلمة النظام أو الأنظمة، ولم تكن عندهم -وعندنا- تعني بأكثر من هذا، فلا يهمنا الإسم بقدر ما يهمنا المسمى، ولا يهمنا الشكل بقدر ما يهمنا المضمون والمعنى. ومع ذلك -نقول تنزلا- لا بأس أن تستعمل كلمة تدوين أو تقريب بدلا من تقنين.
قال -حفظه الله- (ثم هو وسيلة إلى الحكم بآراء الرجال وترك الحكم بما أنزل الله. وتقنين الفقه وإلزام القضاة بالحكم به دون نظر إلى ما يوافق الدليل وما يخالفه حكم بما رآه الناس...)
الجواب: أنه ليس حكم بآراء الرجال. وإنما هي أحكام استنبطت من الكتاب والسنة على القول الراجح من أقوال أهل العلم، والذين يختارون هذه الأقوال علماء أجلاء متخصصون.
وأما ترك الحكم بما أنزل الله: فهذه -والله- من الأسباب التي دفعتنا إلى القول بتدوين هذه الأحكام الفقهية تسهيلا للحكام والمحكومين، ونفعا للبلاد والعباد وخوفا من أحكام الله أن تشوه أو تنال..
ولنا في غير هذه الدولة من العبر ما يحملنا على تحديث القضاء الشرعي ومواكبة التطورات، فحاكم مصر اسماعيل الخديوي عندما تقاصر علماؤها عن أن يجمعوا قانونا من المذاهب الأربعة، ووجدت المعارضة القوية منهم وممن تأثروا بهم، لم يخرج هذا المشروع إلى التنفيذ، ولم يصدر به قرار.
فأدخل واليها إسماعيل القانون الفرنسي ، ولا تزال تلك البلاد خاضعة لسيطرة ذلك القانون. ومع الأسى والأسف انتشر هذا المبدأ إلى البلاد العربية والإسلامية الأخرى إلا المملكة العربية السعودية. فإنها بحمد الله بمنجاة. فهلا سارعنا واتقينا الشر قبل وقوعه، ووضعنا هذا التدوين -التقنين- من أحكام الشريعة الإسلامية، وسهلنا على الناس أمور دينهم ودنياهم وقضاياهم، بدلا من أن نترك الفوضى تدب في الأحكام القضائية وتتفاوت....؟
كلمة عامة
وأخيرا، أقول إن هذا التنظيم الجديد، وهو تدوين الأحكام الفقهية وصياغتها على شكل مواد ليس منزها من العيوب، فالذين يضعونه في الصياغة المطلوبة ويختارونه من بين الأقوال الراجحة -وإن كانوا علماء- إلا أنهم أشخاص من البشر، لكن ينبغي علينا أن نعلم أن هذا التنظيم الجديد بقدر ما يسمح بنقده يجب أن يحمى من الهجوم غير البريء، والذي قد تدفع إليه مطامع شخصية، أو أهداف خاصة للناقد أو لغيره، ممن ينتصر له دون أن يسلك المسلك المقبول شرعا، أو دون أن يقوم نقده على دليل صريح أو منطق علمي سليم، وإنما قد يقوم على تأويل آيات قرآنية أو أحاديث نبوية تأويلا لا تحتمله معانيها، وهذا ناتج عن سوء الفهم لهذه الآيات والأحاديث.
ولا شك أن مثل هذا النقد قد تكون له نتائج عكسية، أقلها بلبلة أفكار العامة، والتشكيك في مشروعية أعمال الدولة، والتحريض على مخالفتها، وإساءة العلاقة بين الحاكم والمحكوم - خاصة بعد صدور الأمر الملكي في هذا الموضوع. فهو في حكم المنتهي.
ولقد أجاد ولي أمرنا -حفظه الله- عندما حقق رغبة والده -رحمه الله- باصداره الأمر باعتماد هذا التنظيم الذي يتضمن التدوين -التقنين-، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
ومهما يكن من أمر، فإن ما عقبنا به على كلام العالم الذي رمزنا إليه لا يحملنا على تجاهل فضله وسعة علمه وعلو قدره، ولكن الأمركما قال الإمام مالك -رحمه الله- (كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر -يعني محمداً صلى الله عليه وسلم-).
وهذا ونسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويوفقنا لإجتنابه، وأن يوفق ولاة أمورنا لما فيه صلاح البلاد والعباد، والإسلام والمسلمين، ويحمي بهم حوزة الدين، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 - فلماذا لم يتعرض الشيخ -حفظه الله- على هذا التوجيه، وهو سد لباب الاجتهاد حسب رأيه.
انظر
جهود تقنين الفقه الإسلامي، للزحيلي
مجلة الأحكام العدلية، أحمد القارئ
الإسلام وتقنين الأحكام. عبدالرحمن القاسم
مختارات من أبحاث هيئة كبار العلماء. ط سمو الأمير الوليد بن طلال
.مجلة المسلم المعاصر،ط بيروت عدد12,11


تم نشره في جريدة الرياض الجمعة 20 ربيع الأول 1426هـ - 29 ابريل 2005م – العدد 13458

Tidak ada komentar:

Posting Komentar

Please Uktub Your Ro'yi Here...